التاريخ لا يسهو، بل المؤرخون هم الذين يفعلون ذلكِ وليست نادرة الحالات التي يتعرض فيها التاريخ واشخاصه للتشويه المستمرِ والاغراض من ذلك تكون متباينة، فيما الحقيقة، وكذلك احترام الماضي وضرورات المستقبل جميعها تحتم علينا ان نتعلمه ونعلمه دون تحريف او تزييف وان نفقه درسهِ فسلامة المعلومة وحقيقة المقصد هي الغاية من كتابة التاريخ، هو ما يفرض في اسلوب تناوله وضرورة التوخي والحذر في ما ينسب من حوادث واقوال في معرض التعاطي مع الوقائع والاشخاص. وتبقى مهمة الباحث محورية واساسية لإلقاء مزيد من الضوء على بعض الامور التي اكتنفها الغموض، وهذا ما يشد المهتم،ولتلقف وتلقي ما يجد من بحوث تاريخية تتصف بالموضوعية مسندة بالمصادر الموثقة والثوابت. فالتاريخ ليس علما جامدا، بل هو منهج وبدون ذلك سوف نكون قد أضعنا الغاية المرجوة والهدف المنشود. ففي التاريخ عوامل اتصال واستمرار مما يجعل التجزئة غير ممكنة، الا اذا ضاعت البوصلة التاريخية حينها يبدأ السجال لتسقط بعض الاطراف في تحليلات انتقائية وهنا فقط ينتهي المنهج الموضوعي، وتبقى مقولة سفيان الثوري هي الحد الفصل ‘لما استعمل الرواة الكذب استعملنا التاريخ’ وربما في استعراضنا لمن شوه التاريخ العربي فائدة وعبرة. في منحى التشويه سار عبدالله الحاتم في كتابه ‘من هنا بدأت الكويت’ بما تضمنه من مغالطات غير معروفة دوافعها ولا اسبابها ومنها في موقع يقول فيه: ‘ان اول سيارة درجت على ارض الكويت عام 1330 ه 1911م، هي نتيجة افلاس الشيخ عبدالرحمن الابراهيم حينما اودع احد تجار الكويت بعض اللآلي عنده في بومبي فاخذ في مماطلته حتى يئس من الحصول عليها وعلم فيما بعد سر هذه المماطلة، فشكاه الى الشيخ مبارك الذي اسرع بدوره فكتب الى الشيخ ما يراه مناسبا وقطع الاتصال التجاري له فخاف قاسم وقرر المجيء الى الكويت واستصحب معه هدايا ثمينة ومنها سيارة وهي الاولى في الكويت، ورغم ذلك فان الشيخ مبارك لم يتساهل في حق التاجر’. وأود هنا ان ادحض هذه الرواية البائسة بموضوعية وحجة واضحتين وتدرج منطقي فالادلة تتكاثر يوما بعد يوم. 1 ـ ان اي تجارة معرضة للربح والخسارة، ولا يمكن مساءلة التاجر عن خسارته الا في حالات يحددها القانون او العرف، ولم نجد انه وجدت ادانة لتلك الحالة. 2 ـ ‘ولا تزر وازرة وزر أخرى’ اذا كان الافلاس يخص الشيخ عبدالرحمن فما علاقة انذار الشيخ قاسم والمعروف انه في ذلك الوقت كان الاثنان يتعاملان بصورة منفردة ولا شراكة تجارية تربطهما الا القربى؟، واذا قام بأي عمل فهو دور تطوعي وحماية للاسم والسمعة. 3 ـ ان افلاس عبدالرحمن كان في نهايات عام 1331 وبالضبط في آخر شهر منه، كما جاء في رسالة من الحاج صالح وابراهيم الفضل من بومبي الى الحاج مقبل عبدالرحمن الذكير في البحرين، وكان الامر واضحا وظاهرا وغير مخفي كما هو نص الرسالة، بينما وصلت السيارة الى الكويت عام 1330 اي قبل ما يقارب السنتين وهذا محتواها: ‘التاريخ 1 ذي الحجة 1331. سبق ان عرفناكم الى ما قدره الله على الشيخ عبدالرحمن وتبعه لقن(1) عرفناكم من جهة مالكم انه يضمن المرهون في ‘أنديان سبيشي بنك’ والشيخ جاسم اظهر اموال اهل الكويت ومتعهد في اظهار مالكم. وحيث ان البنك لم يوافق الا على اظهار الجميع وجاسم امر الاخ عبدالله يتيل لكم لا بد وصلكم التلغراف، واهديتم على الطريق الذي ترونه ربنا يدبركم عليه في الخير والصلاح. مال السيد عبدالله مرهون في محل ثان والاموال المرهونة غير ممكن التصرف فيها قبل وصول اصحابها’. 4 ـ ان التاجر هو الحاج فهد الخالد قد استلم ضمانا مخطوطا وضع فيه الشيخ عبدالرحمن كل املاكه في الدورة والمخراق تحت تصرف الحاج فهد ولحين التسوية وهذا نص الضمان. ‘نعم انا عبدالرحمن بن عبدالعزيز الابراهيم بان عندي الى الحاج فهد الخالد واخوانه رقم لؤلؤ خشن ورقم لؤلؤ جيون ابقيتهم في ‘انديان سبيشي بنك’ واخذت من البنك المذكور على رقم الخشن مبلغ ‘لك ربية'(2) وعلى الرقم الجيون خمسين ألف ربية، الجميع ‘لك وخمسين ألفا’ وجعلت مني من الاملاك الذي لي بالبصرة وهم الدورة والقطعة وملحقاتهم رهانه عندهم في مقابل الدراهم المذكورة’. 25 ذي القعدة 1331 ه عبدالرحمن عبدالعزيز الابراهيم شهد بذلك ابراهم بن عبدالسلام يتضح مما تقدم ان نسبة تجارة الكويت تشكل 1/20 من تجارة الخليج فاذا اضفنا ما تنتجه قطر فتكون النسبة اقل من 1/20. وكما ذكر تاجر المجوهرات الفرنسي ‘كارتييه’ فان نصيب الاسد من تجارة اللؤلؤ الخليجي كان تحت قبضة وسيطرة الشيخ قاسم والشيخ عبدالرحمن، فان قطع العلاقة اذا ما قبلنا جدلا ولا يعني شيئا، ولن ترتعد فرائص احد ويأتي بالهدايا للترضية، فتواصل الهدايا كان مستمرا بمناسبة او بغير مناسبة كما تظهره الرسائل المنشورة لاحقا. 6 ـ الحقيقة التي تغيب عن من يكتب مثل هذا هو عدم المعرفة ببواطن الامور، ‘لكل امرئ من دهره ما تعودا’ وان الرباط الاقوى من الماديات هو عشق الاهل والارض، فالشيخ قاسم والشيخ عبدالرحمن تبرعا معا لتأسيس المدرسة المباركية عام 1911 بثلاثة اضعاف ما تبرعه تجار وأعيان الكويت مجتمعين، وهما المقيمان في ذلك الوقت في بومبي فالمسافة لا تعني البعد والمسؤولية لا تعني الخوف. وتحضرني هنا عبارة من محاضرة القاها دِ يعقوب الحجي في فعاليات الموسم الثقافي لرابطة الاجتماعيين بتاريخ 10 مارس 1997 نصها: ‘رغم كون آل ابراهيم قد تبرعوا بحصة مالية كبيرة جدا لبناء المدرسة المباركية الا انهم لم يشترطوا شيئا بمعنى انهم لم يطلبوا نظير ذلك منصبا او مردودا وهذا ايثار كبير تجاه الوطن والعلم’. 7 ـ قضية السمعة، وهي بالنسبة الى العائلة قضية انسانية موروثة تحكمها القيم والمبادئ وادامة المصالح المشتركة يجب المحافظة عليها بالغالي والنفيس وهذا ما حصل، وهنا الفرق بين من يروي الاحداث بتصرف ومن يصنعها فهي محنة الاول ونعمة الثاني. انه حقا من المؤسف ان يقع مركز البحوث والدراسات الكويتية رغم صفته الاكاديمية فيما نشره بمناسبة عيد التحرير التاسع في الإشكال نفسه الذي وقع فيه المرحوم عبدالله الحاتم والعذر انه شخص محدود المؤهل والمعلومة، ولكن كيف نبرر عمل المركز الذي تناول الموضوع نفسه بطريقة اقرب الى التشهير؟ فاذا كان هناك ما يستحق ذكره فلماذا الانتقائية كما حصلت في موقع آخر وهل ما يكتبه المركز هو كيل بمكيالين؟ واين الموضوعية التي تكلم عنها مديره دِ عبدالله يوسف الغنيم في مقابلة طويلة نشرتها (الطليعة بتاريخ 24 فبراير 2000) وتحت عنوان فرعي ‘نتوخى الموضوعية الكاملة والرصد العلمي الدقيق والاعتماد على الوثائق التاريخية الصحيحة والثابتة في كل ابحاثنا ودراساتنا’ِ فقد جاء في بحث المركز ما ذكره المرحوم عبدالعزيز الرشيد في كتابه ‘تاريخ الكويت’ ص 218، 219 وهو استعراض مختصر تتعلق بحرص الشيخ مبارك على امور رعاياه تهمنا هنا فقرتين، فجاءت الاولى التي فحواها الافلاس كاملة. اما الأخرى عن كساد اسواق اللؤلؤ في بومبي فقد ذكر ما يلائم وجهة نظر المركز وحذف ما لا يريد اظهاره من جيد اعمال آل ابراهيم على طريقة ‘ولا تقربوا الصلاة’. والنص هنا: ‘ذهب بعض تجار اللؤلؤ الى بومبي لبيعه هناك فوجدوا السوق كاسدا والاسعار هابطة فاتصل بهم الشيخ مبارك وطلب اليهم عدم بيع اللؤلؤ بخسارة ودعاهم للعودة الى الوطن حتى لا يتحملوا نفقات البقاء واعطاهم من ماله الخاص ما يقابل قيمة اللؤلؤ ليتاجروا به’ انتهى. وقد حذف بحث المركز وبتعمد ما ذكره المرحوم الرشيد ‘فاصدر امره اليهم لابقاء لؤلئهم عند الشيخ قاسم الابراهيم’. وتحليلنا هنا ان هذا الحذف استمرار للاساءة واثارة روح الاستعداء وهي سمات طرح احادي المبتغي سيئ النية واستطالة على الرموز، ولم نر هنا وثائق او رصدا او تحليلا غير مصدر واحد ظهر قبل 75 سنة او اكثرِ وبالرغم من حيادية المرحوم عبدالعزيز الرشيد وكونه اعترف وبصراحة بان الجهود كانت فردية والامكانات محدودة وقال بالحرف الواحد ‘وقد يكون للحادثة الواحدة وجوه متعددة ولم تبلغني’ ‘إلا وجاء واحد ربما كان سواه اولى بالترجيح’ ص 22 كما قال وتحت عنوان ‘تبويب التاريخ’ ص 23. مستعينا بقول الشاعر عن من سيلاحظ على اشياء فيما كتبت ولكني اجيبه: ‘في فمي ماء وهل ينطق من في فيه ماء’؟ ونصيحتنا هنا الى كل من يكتب في التاريخ ان يضع الحق امامه ويخاف الله في ما يكتب، فان التجريح بين الفينة والأخرى يجب شجبه وايقافه فهو لن يضيف الى الحقيقة شيئا، بل يجعل الكذب والفرية هما المقياس، والعياذ بالله، ان قلم التاريخ يسجل حركته، ولكن لا يحق لاحد استدعاؤه او الطلب منه ان يزيل حتى نصف سطر. (يتبع) (1) لقن هو اكبر تجار اللؤلؤ الهنود (البانيان) في بومبي. (2) لك: يساوي عشرة آلاف روبية.
نفائس الخبايا من تاريخ الكويت (1), القبس 28 يونيو 2000
4264 اجمالي الزيارات 2 الزيارات اليوم
تعليقات الزوار