برزت في الآونة الأخيرة أصوات ومحاولات تنادي بإعادة كتابة جوانب مجهولة من التاريخ الاجتماعي للكويت، ويأتي تاريخ مساجد الكويت القديمة في طليعة هذا المسار، بغرض الاهتمام والكشف عن بعض الملامح الغائبة أو المغيبة في تاريخنا الاجتماعي ومناشطنا الدينية منذ تأسيس الكويت. لقد ترك المؤرخون الكويتيون وغيرهم تراثا تاريخيا زاخرا، لكن هناك جوانب كثيرة غامضة من هذه التركة التراثية، لا يعرف عنها إلا القليل منا، فمن خلال قراءة متأنية للتاريخ، وبالذات، لما نشر في بعض الكتب والوثائق والدراسات التي تناولت تاريخ الكويت وتراجم وسير حياة بعض أعلامها ووجهائها وشخصياتها، يستطيع الباحث الدؤوب، أن يكتشف ما كان غامضا منها. وإذا كانت الوثائق تمثل للباحث أهمية كبرى لاغني عنها، فأننا اليوم أحوج ما نكون إلى مراكز بحوث ودراسات تاريخية تعني بالشؤون التوثيقية وتشكل مرجعية لها مصداقية لا يرقى إليها الشك، بصرف النظر عن تبعيتها سواء كانت مراكز أهلية أم رسمية. أن الذين كتبوا تاريخ الكويت أو جوانب منه، البعض منهم حالفهم الحظ لكن البعض الآخر جانبهم الحظ لضعف مصادرهم لذلك تبقى الكتابة التاريخية بحاجة إلى المزيد من الجهود الكبيرة والمخلصة والدؤوبة التي تكشف الحائق الدامغة. الكويت عاصمة الثقافة العربية عام 2001م: بمناسبة اختيار الكويت عاصمة الثقافة العربية لعام 2001م ينبغي علينا أن نبينا أدوار روادنا الأوائل الذين أسهموا وصنعوا وأسسوا حركة التنوير في الكويت من خلال عطاءاتهم المتميزة في شتى المجالات التي كانت متاحة لهم وكل بقدر استطاعته وإمكاناته آنذاك. وبناء على ما تقدم نستطيع القول: أنه بفضل الدراسات والأبحاث والرسائل الجامعية المتواضعة والمتاحة التي تناولت مسائل جزئية، لكنها بالرغم من تكل أضحت رافدا مفيدا يلقي الضوء على أبعاد وتطلعات جديدة تجعل أعادة دراسة هذه المواضيع أمرا ضروريا يدفعنا ذلك إلى الدعوة بالاهتمام بنشر ما يستجد من مصادر ومنها وثائق الأوقاف وحجمها التي ترجع إلى بدايات التأسيس، وهذه مهمة رجل التاريخ في المعاهد والكليات الجامعية أن يوجهوا طلبتهم إلى إعادة دراسة بعض المواضيع التي سبقت دراستها من جيل الرواد وذلك وفقا لمناهج البحث الحديث. وهكذا فأنه ما زال أمامنا طريق طويل يحتاج إلى توافر جهود جيل مؤهل من الباحثين والدارسين لإنجاز هذه الدراسات الجزئية المهمة التي لا نستطيع بدونها أن نحقق الهدف المرتجي. أن الجديد في هذا الموضوع هو: العثور على مخطوط نشره د. عماد عبد السلام رؤوف، وجسده منسيا في إحدى خزائن جامع الشيخ عبد القادر الكيلاني ببغداد كتب بخط يد عبد الرحمن بن عبد الله السويدي البغدادي المتوفي سنة 1200هـ/1785م، ضمن رسالته التي تحدث فيها عن الحوادث التي شهدتها المنطقة في أواخر حياته خلال عامي 1776-1778م، حيث انتشر في بغداد عام 1882م، وباء الطاعون المروع كانت نتيجته القاء الجثث في الطرقات حيث عمت الفوضي وهاجر الناس ومن بينهم السويدي، من مدينة الموت قاصدا البصرة، وعندما زحف الطاعون على مدينة البصرة هرب وعائلته مرة أخرى إلى الزبير، ولما داهمها وباء الطاعون هرب إلى الكويت، وقد حصد هذا الوباء عشرات الآلاف من الأهالي. الطاعون في الكويت: هذا المخطوط المنسي يلقي بعض الضوء على الحياة الدينية والاجتماعية والثقافية بالكويت في أواخر عهد الشيخ عبد الله بن صباح حاكم الكويت الثاني 1762 – 1812م، وسنستعرض من هذا المخطوط ما يخص بحثنا هذا وهو خاص بتاريخ المساجد القديمة في الكويت: عندما غادر عبد الرحمن السويدي أمارة الزبير مع أبنائه وجماعته أثر زحف وباء الطاعون. عليها متوجها إلى الكويت كتب عنها ما يلي: “الكويت بلد يقع على ساحل البحر وقد استغرقت رحلتنا إليه ستة أيام برا، حينما دخلناه أكرمنا أهله أكراما عظيما، وشم أهل صلاح وعفة وديانة، وفيها أربعة عشر جامعا ومسجدان في أوقات الصلوات الخمس تملا بالمصلين، أقمت فيها شهرا لم اسأل فيها عن بيع أو شراء أو نحوهما، بل اسأل فيه عن صيام وعن صلاة أو عن صدقة، وكذلك نساؤها ذوات ديانة في الغالب، وقرأت فيها الحديث في ستة جوامع، نقرأ في الجامع يومين أو ثلاثة فيضيق الجامع من كثرة المستمعين فيلتمسون مني الانتقال إلى جامع اكبرا منه وهكذا حتى استقر الدرس في جامع ابن بحر، وهو جامع كبير ويقع على البحر كجامع القمرية في بغداد. ولما تواترت الأخبار بانقطاع وباء الطاعون عن البصرة أرادت الرجوع إليها فقدم لي أهل الكويت سفينة كبيرة أنزلوني فيها أنا وعيالي وركب معنا في المركب عدد من أكابر أهل الكويت بقصد مرافقتي، وعندما وصلنا إلى البصرة نزلنا أنا وجميع الركاب من أهل البصرة ولم يتقاض صاحب المركب منا جميعا (نول) وصاحب المركب كان يخدمنا بنفسه. المعلومة التي أضافتها المخطوطة إلى تاريخ الكويت: الصورة التي أظهرتها تلك المخطوطة عن تاريخ الكويت قد أضافت بعض الملامح عن سكانها ووضعها الاجتماعي، فوجود 14 جامعا ومسجدين قد يسمح بالتأكيد على أن تكون تلك المساجد موزعة حسب مناطق سكني الأسر الكبيرة التي تشكل القاعدة السكانية أو المؤسسية، هي 14 أسرة كبيرة لكل أسرة جامعها، وأن عدد السكان في تلك الفترة لا يقل عن عشرة آلاف نسخة وهو رقم ليس بالقليل بحساب تلك الأيام، ويتفق هذا الرقم مع ما ذكره الرحالة الدانمركي نيبور، الذي زار الكويت عام 1775م، (أي بعد ثلاث سنوات من زيارة السويدي)، وقدر عدد السكان بعشرة آلاف نسمة وأسطول سفنها بثمانمائة سفينة. أن ما ذكره السويدي عن الكويت قديما، التي كان يحيط بها السور الأول الذي بني في أواخر حكم الشيخ عبد الله بن صباح الأول، ويبدأ السور من البحر غربا بالقرب من بيت آل البدر مارا بمسجد سعيد وهنا تقع دروازة الفداغ ثم يسير شرقا إلى براحة السبعان حيث تقع دروازة ع نزة ثم يتجه إلى الصنقر وتقع دروازتها بالقرب من مسجد بن فارس ثم دروازة العبد الرزاق وآخره في فريج المطبة. أن وجود هذا الكم الكبير نسبيا من بيوت الله في رقعة صغيرة من الأرض، يؤكد على أن بناء هذه المساجد قرب مساكن مؤسسيها وضيوفهم ومن يتبعهم، فإن ذلك ما هو إلا دليل على إطلاق اسم من انشأ المسجد، فقد كان آنذاك لكل أسرة مسجد بنته بالقرب من مسكنها، تقربا إلى الله سبحانه وتعالى ولأداء الصلوات في مواقيتها وللتواجد فيه لحضور دروس الدين التي كانت تقام فيه بالمناسبات، وأيضا كمركز يجتمع فيه أهل الدين والعلم وغيرهم كلما دعت الحاجة، فضلا عن اعتبارها مركزا لمن يفد إلى البلاد باعداد كبيرة كمواسم الحج والتجارة والغوص. وقد نجم عن تنافس هذه الأسر في تدينها وتقربها إلى الله عز وجل مما يدل على وجود حياة حضارية ذات عمق تاريخي مستقر في قلوب الأسر الكويتية آنذاك، كما نبانا السويدي عن اكتظاظ جوامعها ومساجدها بالحضور لتلقي الدروس الدينية، والرغبة بالتعرف على أمورهم، وأمر الدين وتعطشهم لفهم العلم والمعرفة. الأسباب التي تدعو للاعتقاد بأن المسجد يعود لآل إبراهيم: موقع المسجد في فريج آل إبراهيم في البهية مقابل قصر السيف وهو موقع نقعة ابن ابراهيم، وقد استولى عليها الشيخ مبارك الصباح وتم ردمها واصبحت اصطبلا للخيل، وفي عام 1905م، شيد عليها قصر السيف، ويمكن للقارئ أن يرجع إلى كتاب (تاريخ قصر السيف) الصادر عن الديوان الأميري عام 1976، تأليف: خديجة بسكتي، وسهام الرجعان. ربما كان المسجد عبارة عن مصلي ملحق في كوت بن عريعر ولما استقر مؤسسو المسجد في الكويت عام 1716م استخدموا أول ربما زادوا في مساحته. كانت كل الأسر – كما هو معروف تبني مسجدا في الموقع الذي تقيم فيه مساكنها، وقد كان سكن آل إبراهيم في حي الوسط ببهية وفريجهم معروف باسمهم. وقد حاول البعض – سامحهم الله – ان ينسبوا بناء المسجد إلى عوائل أخرى، ومنهم السيد محمد يوسف البدر، الذي قال أن مؤسس المسجد هو: ابراهيم بن عبد الله البدر، نسبه إلى عائلة البدر المعروفة، لكن هذا غير صحيح لأن المعروف والمشهور من تلك العائلة الكريمة هما يوسف وناصر البدر، ومحل سكنهما منذ البداية كان في حي القبلة (فريج) البدر، وليس في (بهيته) ولم يعرف أن هناك شخصية فيهم تدعي إبراهيم البدر كما يوجد مسجد باسم العائلة. أما عدنان سالم الرومي، فقد ذكر في كتابه (تاريخ مساجد الديرة القديمة) ص101، أن مؤسس مسجد ابن بحر، هو الشيخ ابراهيم بن عبدالله البحر، واسند ذلك إلى قول محمد يوسف البدر، وحسب علمنا لا يوجد في عائلة البحر من يسمى ابراهيم والمقصود هنا ليس أسرة البحر التجار، فالوثيقة التي ذكرها المرحوم عبد الله الحاتم في كتابه (من هنا بدأت الكويت) تنص في ص14 على اسم: عبد الله بن علي بن سعيد بن بحر بن خميس بن ثاني بن وسيط بن معني، وهو من عائلة البحر التي اتسم أفرادها بعلوم الدين. كما أنه من الصعب الأخذ بأن كلفة بناء جامع يقارون بثاني أكبر جامع في بغداد من ريع بيت مسكن بمبلغ ثلاثين قرشا (والقرش يساوي مائة فلس) أي بمبلغ ثلاثة دنانير. الجامع حسب صف السويدي: “جامع كبير يقع على البحر كجامع القمرية في بغداد” وجامعة القمرية هو ثاني أكبر جامعين في بغداد ويعد من أقدم الجوامع التاريخية في بغداد، أتم بناءه الخليفة المستنصر العباسي سنة 626هـ/1228م، قبل سقوط بغداد واحتلال هولاكو المغولي لها بثلاثين سنة. ويبدو أن جامع ابن بحر بني على مثال جامع القمرية فهذا يحتاج إلى أموال طائلة لا تقدر على انفاقها أسرة متواضعة كما هو معروف عن آل بحر، كما نود أن نؤكد مرة أخرى بأن أسرة آل بحر لا تعني بها أسرة آل بحر التجار المعروفين اليوم أنما الأسرة المقصودة هي من المؤسسين أما الثانية (التجار) فإن قدومهم كان في بداية القرن الحالي (1900م). مما جعلنا نميل إلى أن تجديد وتوسعة الجامع قد تم على نفقة عميد آل إبراهيم في ذلك الوقت، الشيخ محمد بن إبراهيم الذي ارتحل من منطقة الوشم بنجد إلى الكويت عام 1120هـ/1708م، أن الفارق الزمني بين هجرته والتجديد الأول للجامع حوالي عقدين وهي فترة محتملة. مساجد قرب البيوت: والمعروف عند الجميع آنذاك وإلى يومنا هذا، أن بناء المساجد كان بدافع رفعة شأن الدين وذكر اسم الله وليس لحب الشهرة والتباهي، وأسماء المؤسسين والمتبرعين قد لا تعلن فكثيرا ما كانت تكتب الاسم الحقيقي، ولم يكن هاجس أسرة آل إبراهيم آنذاك السعي وراء الشهرة أو المجد فالمجتمع الكويتي آنذاك كان يتابع وتيفهم كل شيء، لقد قامت الأسرة بتعمير بعض المساجد في أحياء أخرى من الكويت، ومن يقوم بمثل ذلك لا يستعصي عليهم بناء مسجد قرب مساكنهم وفي حيهم. وقد جرت العادة آنذاك أن تسمي المساجد بأسماء من يؤم المصلين. وأسرة آل بحر – كما أسلفنا – من الأسر القديمة التي عرف عن أفرادها اهتمامهم بشؤون الدين – كما كان اهتمام أسرة العدساني بالقضاء – ونتيجة لذلك جاءت التسمية كما أوردها السويدي في مخطوطته، وكما هو معروف بأن عائلة بن بحر المذكورة هنا لم تكن تسكن في (فريج) الإبراهيم في (بهيتة) بل كان مسكنهم في حي (القبلة) والعادة كما ذكرنا أن المؤسسين كانوا يبنون مساجدهم في أحيائهم وقرب بيوتهم. وبالتالي ليس بالكثير على أسرة آل ابراهيم أن تكون لهم المبادرة في بناء أو تجديد مسجد يقع في حيهم والقريب من مساكنهم وهم الذين كانت لهم اسهامات جليلة في خدمة بلدهم الكويت على مر العصور، وقد قام كاتب هذه السطور بنشر مقالتين في جريدة الطليعة، الأولى كانت في العدد الصادر يوم 5 مارس 1997، وقد جاء تحت عنوان “عطاء الرواد بين المحدود والميسور” أما الثانية فقد نشرت في العدد الصادر في 26 مارس 1997م بعنوان “عندما تلتقى المعرفة بالحقيقة” فيهما ذكرنا بعض مآثر وجهاء أسرة آل الابراهيم، وقد استمدينا المعلومات والبيانات من كتاب غير منشور بعنوان “بيت بن ابراهيم سيرة وعطاء”. ملاحظة حول تجديد مسجدي العدساني وياسين: من الأرجح أن يكون الشيخ عيسى بن محمد آل ابراهيم هو الذي قام بتجديدهما عام 1250هـ/1843م، أبان حكم الشيخ جابر بن عبد الله (جابر العيش) وليس الشيخ محمد بن عبد العزيز آل ابراهيم. وقد جاء ذكر ذلك في مسودة وزارة الأوقاف ص187، ولا اعتقد أنه يوجد شخص من عائلة آل إبراهيم يسمى بهذا الاسم، أنما المعروف أن أول من استقر في الكويت هو الشيخ محمد بن ابراهيم بن ريمان العنقري، وقد ذكر ذلك صالح بن عيسى في كتابه “حوادث واعيان نجد”. وقد ذكر خطا اسم عيسى بن إبراهيم آل إبراهيم، وكثيرا ما يحدث لبس بالأسماء. ونختتم بقول الشاعر: يود أناس هدم ما شيد العلا وهيهات للمعروف أن يتهدما. المصادر: 1- مسيرة وعطاء بيت بن إبراهيم. 2- جريدة الطليعة العدد 5 و 26 مارس 1989م. 3- كتاب العربي (25) 15 أكتوبر 1989 . 4- شاكر مصطفي ص90. 5- مجلة أسرتي العدد 1361 فبراير 1996.
القبس – الجمعة 24/12/1999 – العدد 9526 وثيقة من القرن 18 تتحدث عن 14 جامعا ومسجدين
6038 اجمالي الزيارات 3 الزيارات اليوم
تعليقات الزوار