ظهور الطبقة البورجوازية الكويتية :
ارتبطت حياة الكويتيين قديماً بالبحر والبر، وظهرت طبقة تجار تسيطر على الأنشطة التجارية بأنواعها، بما فيهم الأسرة الحاكمة الداعمة لهذه الفئة التجارية ، التي تدير التجارة المحلية والخارجية مع الهند.
فالكويت مثل بقية المجتمعات الخليجية قبل النفط مجتمعها قبلي بحري، يشده إلى الصحراء نسب وإلى البحر سبب، فأساس مكونات تجمعاتها البشرية القبيلة، فالصحراء والبحر حددا نوع الحياة والانتاج في تلك المجتمعات التقليدية، فقد اعتمدت على نشاط اقتصادي بدائي، عوائده محدودة تذهب لشريحة اجتماعية قليلة وصغيرة، تعد الفئة التجارية التي يمثلها التجار المسيطرون على التجارة الداخلية والخارجية للبلاد، هي المحتكرة لعمليات التمويل المالي للأنشطة الاقتصادية القائمة، ومن أهمها مهنة الغوص على اللؤلؤ، فشكلت طبقة رأسمالية تحتل قمة الهرم من التركيبة الاجتماعية، وعلى رأس تلك الطبقة التجارية الأسرة الحاكمة التي ارتبطت ارتباطاً مصلحيا أو ارتباط قرابة مع الشريحة التجارية العليا، فنتيجة ارتباط الطبقة التجارية وتحالفها القوي مع الأسرة الحاكمة في البلاد، اعتر التجار أهم الركائز الأساسية التي وفرت الموارد المالية، لتثبيت دعائم الحكم وتيسير أمور الإمارة بنشاطهم الاقتصادي، وعلى مقدار الضرائب المدفوعة للحاكم، فالتجارة المحلية في الخليج العربي بما فيها الكويت تدار بواسطة تلك البيوتات من الطبقة التجارية إدارة تقليدية، تركزت معظم نشاطات تجارتها مع الهند، لوجود الشركات التجارية الرأسمالية الأوروبية الضخمة ذات الخبرة العلمية والفنية، لأن الحكومة البريطانية سمحت بالنشاط التجاري بين الخليج العربي والهند بمراقبتها المباشرة، خدمة لمصالحها وسياساتها فلا يؤثر عليها، ولأن الهند كانت في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي مركزاً تجارياً مهماً، فقد استقر بها هؤلاء التجار وسيروا سفنهم منها وإليها، بل و توسعت مقراتهم لتشمل سواحل الجزيرة العربية وشرق إفريقيا، وفتحوا فيها وكالاتهم التجارية لمتابعة متطلبات العمل التجاري خاصة في بومبي، فالهند تعد في تلك الفترة ” المركز التجاري والاقتصادي، والسياسي الأول في معظم آسيا”، فاتخذها التجار مقراً رئيسياً لأعمالهم التجارية المتنوعة التي من أهمها تصدير المواد الغذائية، ومواد البناء والأقمشة، واستيراد اللؤلؤ، كما أن معظم العائلات الخليجية والكويتية التجارية أثرت من تجارتها مع الهند، فمؤسسوها الأوئل بدؤوا نشاطهم التجاري من هناك بتسيير عدد من السفن الشراعية المحملة بتمور البصرة إلى الهند، والعودة بمختلف البضائع الهندية، فالهند تعتبر أهم وجهة تقصدها سفن الكويتيين، وارتبطت ارتباطاً وثيقاً باقتصاد الكويت انتعاشاً وانتكاساً، ونتيجة للنشاط التجاري المتزايد أنشأ الكويتيون عدداً من المراكز أو الوكالات التجارية في الخارج، في كل من المحمرة والبصرة والبحرين، ومسقط، وعدن، بومبي، وكراتشي، وكاليكوت، ومنذ منتصف القرن التاسع عشر الميلادي حتى منتصف القرن العشرين، استقر في الهند عدد من البيوتات التجارية لمتابعة متطلبات العمل التجاري، وكانت مدينة بومبي من أهم المناطق التي قصدها الكويتيون وسكنوها، باعتبارها منطقة وميناءً تجارياً ومقراً وئيسياً للسفن الكويتية، ومركز لبيع اللؤلؤ والأخشاب والتمور والبضائع الأخرى، فازداد أعداد الكويتيين هناك بمرور الزمن، فتكونت جالية كبيرة سميت بالجالية الكويتية في مدينة بومبي، واستقرت البيوتات التجارية في كل من بومبي وكراتشي كذك، لأنهما من أهم المدن الكبرى والمزدهرة تجارياً ومن أكبر الموانئ في شبه القارة الهندية، ويختلف تاريخ إقامة بعض العائلات الكويتية من عائلة إلى أخرى، لا سيما أنها تمت على ثلاث مراحل تارخية، فأولى العائلات الكويتية المقمية في الهند كانت أكثر العوائل ثراءً في الكويت، بتلك الفترة المبكرة ما قبل منتصف القرن التاسع عشر، أشهرهم بيت بن إبراهيم، وعائلة الفرج، وعائلة العبدالجيل وعائلة السديراوي، وعائلة الفوزان وكذلك في بداية القرن العشرين الميلادي استقرت عوائل أخرى لمتابعة نشاطها التجاري هناك، ومنهم الشايع، والقناعي، والماجد، والقاضي في بومبي، ويوسف صقر عبدالله الصقر في كاليكوت، ومحمد ثنيان الغانم في براول، ومرزوق محمد المرزوق، و السعد المنيفي، وجاسم محمد بودي وعبدالرحمن شاهين الغانم وحمود الجسار في كراتشي، وفي فترة ما بعد عام 1929م حتى الحرب العالمية الثانية 1939م-1945م، وهي الفترة الصعبة التي مرت على الكويت كثرت أعدادهم ومنهم: عبدالعزيز حمد الصقر، وحمود يوسف النصف، ومساعد عبدالله الساير وأحمد عبدالله الأحمد، وعبدالله عبداللطيف الحمد، وإبراهيم عبدالله الجناحي وغيرهم في بومبي.
عائلة آل بن إبراهيم
عائلة آل بن إبراهيم أحد الأسر العربية التجارية العريقة في الكويت، أخذت الأسرة اسمها من الجد الأعلى إبراهيم بن ريمان العنقري لقباً، وعرفت به منذ القرن التاسع الهجري قبل الحكم السعودي الأول فهم أمراء ثرمداء والحريق في وشم نجد.
هاجر الجد الأعلى للعائلة محمد بن إبراهيم وعائلته لأسباب سياسية وأسرية قاهرة، فاختار الكويت وطناً ومستقراً وهي آنذاك في بداية تأسيسها، فنقل إليها أمواله وألقابه باعتباره أحدىأمراء ثرمدا، ومن أبناء عمومة حكام نجد قبل الحكم السعودي الأول، ابتنى مساكنه لصيقاً لآل صباح على ربوة مرتفعة، مطلة على البحر يطلق عليها بهيته، وهو ما عرف عليه لاحقاً فريج بن إبراهيم موازياً لفريج الشيوخ قرب مسجد قديم ملحق بكوت بن عريعر القديم ليصبح مسجداً حمل اسم العائلة، على القاعدة المتبعة سابقاً لكل أسرة مسجدها، وإبان التطور السريع الذي مرت به الكويت في عهد الشيخ عبدالله بن صباح (1764-1815م) مما أهلها بلوغ مكانة مرموقة مقارنة مع البلاد المجاورة، برزت كطبقة برجوازية ثرية لعبت دوراً سياسياً واجتماعياً، وامتد طموح استثماراتها خارج البلاد بقدر ما تسمح فيه الظروف، وأن أدت إلى الإقامة في بلدان أجنبية بعيدة كالهند، فقد ذكر المستشرق الروسي كوتلوف في كتابه ” تكون حركة التحرر الوطني في المشرق العربي” جاء تكون الطبقة البرجوازية في الولايات العربية من الإمبراطورية العثمانية في ظروف معقدة، للسيطرة الاقتصادية من قبل الاحتكارات الأجنبية والتسلط التركي، فاتجه رأس المال الوطني الذي كانت إمكانيات المشاريع الصناعية الواسعة مغلقة أمامه، بشكل رئيسي إلى مجال التجارة وإمتلاك الأراضي، وكانت عائلة الإبراهيم صاحبة أكبر البيوتات التجارية بالكويت، تمتلك أسطولاً كبيراً من السفن الشراعية الكبيرة مع الهند، إلى شراء بساتين نخيل واسعة على ضفاف شط العرب، وتولى الجيل الأول للأسرة زمام العمل ومسؤوليته في نهاية القرن الثامن عشر بمسار مختلف يساعد على تنثمية الثروة وحمايتها، بتوزيعها في مجالات مختلفة وأقطار متعدد لتقليل المخاطر وتنويع المصادر، والانتقال من مرحلة الاستيراد عبر وسطاء إلى التبضع المباشر من المصادر، واستغلال أفضل ما تملكه العائلة من سفن شراعية بتشغيلها كلها، أو جزء منها لحسابهم لنقل بضائعهم، ومن ثم تأمين نسب أعلى لإشغالها، وبما أن المصدر الأكبر للاستيراد لسد الاستهلاك المحلي، أو إعادة التصدير (ترانزيت) في أسواق الهند وبالعكس، فإن المادة الأكثر تصديراً من تلك المنطقة إلى تلك الأسواق هي تمور البصرة، فأصبح لزاماً العمل على تأسيس موطئ قدم وهو الاستثمار في كليهما، فتقاسم الجيلالأول المتمثل بالأبناء الأربعة الأدوار، حيث ابتدأ الأبن الأكبر عبدالله بن محمد (1755م-1815م) في الاستثمار بمجال زراعة النخيل، منذ 7 ربيع الأول 1229 هـ الموافق 27 فبراير 1814م، أواخر حكم حاكم الكويت الثاني عبدالله بن صباح، حينما قام باستجار بساتين نخيل تعود إلى ورثة متسلم البصرة عبدالله آغا 1209 هـ- 1229 هـ / 1794م-1814م، فكانت خطوة رائدة لأنه أول الكويتيين الذين دخلوا هذا المجال، وتبعه آخرون بعد ذلك بعد عقد ونصف، منهم صقر بن محمد الغانم ومحمد بن شعيب 13 جمادى الأولى 1245 هـ، الموافق 10 نوفمبر 1829م.
توفي عبدالله بن محمد حوالي عام 1815م وكان قد أخلف ابنه صالح، أما الابن الثاني عيسى بن محمد (1760-1839م) فكانت خطوته أبعد مسافة وأكثر خطورة وأشد جسارة، حيث شد الركب إلى إلى بلاد الهند وعاصمتها التجارية ومينائها الأهم سورت، إبان حكم أباطرة الهند المغول في عهد أكبر شاه الثاني (1806م-1837م)، وبعد 25 سنة توفي عيسى حوالي عام 1255 هـ/1839م في سورت ويعرف عن عيسى بن محمد أنه أساسس وبنى مسجد العدساني 1197 هـ 1782م، ومسجد ياسين 1250 هـ / 1834م. حتى عام 1288 هـ / 1871 م، كما تقاسم الضريبة التي فرضتها الدولة العثمانية، لتسليح الفيلق السادس الذي سبق للحرب الروسية (إمدادي سفري) عام 1878م، أبان حكم السلطان عبدالعزيز والاسكندر الثاني قيصر روسيا، والتي تسلمها حاكم الكويت الخامس (1865م-1891م) عبدالله بن صباح، ومقدارها أربعة آلاف ليرة عثمانية مناصفة مع الوجيه يوسف البدر، كما يذكر مؤرخ الكويت عبدالعزيز الرشيد بأن حاكم الكويت الثالث قد أعفلى علي بن محمد من الرسوم على بضائعه كافة، ويعزى إلى علي أيضاً بأنه أول كويتي قام بطباعة كتاب “نيل المآرب بشرح دليل الطالب على مذهب الإمام أحمد بن حنبل” للشيخ عبدالقادر بن عمر الشيباني على نفقته، في المطبعة الخيرية بولاق بالقاهرة في عهد الخديوي إسماعيل عام 1871م، وقد توفي علي بن محمد عام 1300 هـ/1882م، ورثاه شاعر الكويت آنذاك عبدالله الفرج بقصيدة مطلعها :
نحن بنو الموتى نعد فما لنا *** عند المصاب يروعنا المفقود
سيقودنا ما قاده ويضمنا *** ما ضمه ويعمنا التلحيد
ما نحن فيها بين عادات الورى *** إلا فرائس والمنون أسود
فتعيد أنفسنا برغم أنوفنا *** إن المنية للنفوس تعيد
تمضي الحياة وكل شيء هالك *** إلا الإله الواحد المعبود
كادت منازله تموت لموته *** حزناً وتدرس بعده وتميد
شالت نعامته بيوم كاد أن *** ينهد فيه الشامخ المعمود
ويخاطب أبناءه محمد وعبدالعزيز :
انبي علي ما وجدنا صبركم *** إلا كصبر ما عليه مزيدُ
من مات فات ولم يمت من ذكره *** تحييه أبناء له وتشيدُ
ولئن بهم تلك الديار تباعدت *** عنا ففينا (يوسف) موجود
أما عبدالوهاب بن محمد فكان نشاطه امتلاك عدد كبير من السفن الشراعية، كما أنه فقد في سنة الطبعة 1288 هـ / 1871م، سبعة من سفنه حيث كانت أكبر كوارث البلاد الاقتصادية حينها، فقد أصابتها خمسة أعاصير كبيرة ضربت بحر العرب خلال تلك السنة، من سلان حتى القرن الأفريقي (الصومال حالياً) وشمالاً سواحل الهند الشمالية ومدخل الخليج، وقد توفي عبدالوهاب بن محمد 1299 هـ – 1881 م.
وبعد رحيل الرعيل الرائد الذي أرسى دعائم الثروة ليستلمها أبناؤهم من الجيل الثاني، وعلى رأسهم عبدالله بن عيسى ( 1231 هـ / 1815 م)، الذي كرس اهتمامه بتنمية الاستثمار الزراعي، فكان الأنشط في شراء بساتين النخيل في ولاية البصرة العثمانية، فقد كان تعميم نظام تسجيل الأراضي الزراعية، في دوائر التسجيل العقاري (الطابو) في بدايات عهده، تفتقر إلى الجهاز الفني لتحديد الأملاك ومسح حدودها، فقد منحت سندات تختصر الحدود، فتكتب من الجاري (النهر) إلى الذاري (أطراف الصحراء) التي بلغت قمتها بحيازته على مقاطعة الدورة عام 1856م وقام بتعميرها، فأصبحت العائلة خلال حياته من أكبر ملاك النخيل في ولاية البصرة، والتي بلغت ملكيتها ما يقارب سبعة آلاف جريب من النخل، ( الجريب = مائة نخلة ) أي ما يساوي 3967 متر مربع، في أواخر حكم جابر بن عبدالله الحاكم الثالث، واستمر خلال حكم صباح بن جابر الحاكم الرابع، وكان يساعده في إدارة تلك الملكيات الشاسعة ابن عمه، أحمد بن علي الذي استحصل حكما من مدحت باشا والي بغداد، لإيقاف تعديات ناصر باشا السعدون على أملاك الأسرة عام 1871م.
وقد كتب قاضي البصرة أحمد نور الأنصاري تقريرة ” النصرة في أخبار البصرة” جرد ملكيات النخيل الكبرى في البصرة، حينما ذكر عبدالله بن عيسى في ثلاث مواقع وأطلق عليه، ” الرجل الثقة عبدالله بن عيسى بن إبراهيم الكويتي أحد تجار الكويت”، وإضافة إلى نشاطه الاقتصاد فقد لعب دوراً سياسياً هاماً إبان محاولة نامق باشا عام 1866م بضم الكويت إدارياً في ولاية البصرة العثمانية، وكان عبدالله على رأس من تصدروا لهذه الخطة فتم قبرها في مهدها كما أثبتته الوثائق البريطانية.
وعلى صعيد العمل الخيري يذكر لعبدالله بن عيسى التجديد الثاني لمسجدهم عام 1275 هـ / 1858م، وبناؤه مسجداً كبيراً في أملاكهم بالدورة عام 1284 هـ / 1867 م، لا يزال قائماً وألحقت به مدرسة خاصة، درس فيها بعض أبناء العائلة وأقاربهم وأصدقائهم من عوائل الكويت، كالمرزوق، والجوعان، والغرير، والعسعوسي، والحنيان، واللوغاني، وبوعركي وغيرهم، وكان من درس فيها في بداية القرن المنصرم حافظ وهبة (ملا حافظ) مستشار الملك عبدالعزيز لاحقاً ومحمد تقي الدين الهلالي، وفي السنوات الأخيرة من حياته الحافلة، اشترى بيتاً وجاور بيت الله الحرام، وكان أهل مكة يطلقون عليه حوش الكويتيين، وقد توفي عبدالله بن عيسى هناك في 25 جمادى الاولى 1292 هـ / 29 يونيو 1875م، وأنجب الابن الوحيد يوسف في عام 1842م، الشخصية المشهورة في أحداث تاريخ الكويت والذي توفى عام 1906م.
وبعزى إلى يوسف نفوذه في إقناع شركة بواخر الهند البريطانية، بالدخول إلى مياه الكويت والرسول في مينائها وهي في طريقها إلى البصرة وهي الباخرة (PENANG) لتدخل مياه الكويت عام 1868م، كما ورد في كاتب WITH STAR AND CRECENT، للرحالة الأمريكي لوشر الذي قام بترجمة جزء منه، عبدالله ناصر الصانع 1958م.
وقال عن يوسف بن عبدالله الإبراهيم، مؤرخ الكويت الأول عبدالعزيز الرشيد، “مثل الشيخ يوسف آل إبراهيم، روايات لا تقل في غرابتها عن كثير من الروايات التي تذكرنا بأولئك الأبطال الذين يقومون بجلائل الأعمال، والناس في غفلة عما يعملون”، ويقول عنه أيضاً الشيخ يوسف بن عيسى القناعي في صفحات من تاريخ الكويت، من بيت رفيع بالكويت وكان ذلك البيت أثرى بيت فيها وقد حصل ليوسف من العز والإقبال، ما لم ينله أحد قبله منذ تأسست الكويت، ومثله أمين الريحاني في كتابه تاريخ نجد الحديث، “كان يوسف آل ابراهيم كبير تجار اللؤلؤ في أيامه وأغناهم”، وذكره في كتاب ملوك العرب “إن يوسف دولة وثروة”.
أما في الهند فقد تولى إدارة أعمال العائلة أبناء علي بن محمد وهما الأوسط محمد والأصغر عبدالعزيز، حيث أصبح سوق اللؤلؤ هو الأوسع والأكثر رواجاً، فتركز نشاط أعمالهما في تلك التجارة، التي صادفت تلك الفترة الإنتقال التدريجي لتجارة اللؤلؤ إلى بومبي، بعد افتتاح قناة السويس 1869م، التي اختصرت مسافة الرحلات إلى أوروبا وعززت من انتعاش تجارة اللؤلؤ فيها، كما انتقلت أعمال العائلة إليها، ولكنهم أبقوا بيت سورت كمنتجع، فكانت نقلة ناجحة بلغت نتائجها نماء ثروة العائلة لدرجة غير مسبوقة، حينما بلغ تعاملهم المصرفي مع عشرة بنوك محليةوعالمية في نهاية القرن التاسع عشر، كما ظهرت في توثيق رسمي صادر عن حكومة الهند
BANK OF BOMBAY
BANK OF AUSTRALIA
BANK OF BANGAL
BOMBAY MERCHANT BANK
INDIA SPECIE BANK
YOKOHAMA SPECIE BANK
NATIONAL BANK OF INDIA
NATIONAL D’ESCOMPETE DE PARIS
ALLANCE BANK OF SAMLA
CHARTERD BANK OF INDIA AUSTRALIA & CHINA
وبعد وفاة محمد بن علي عام 1899م أصبح عبدالعزيز بن علي على رأس العمل، يساعده ابن أخوه الشيخ جاسم بن محمد وابنه عبدالرحمن بن عبدالعزيز، ولم تنس عائلة الابراهيم وطنها ولا جذورها في الكويت ومشاركتها في السراء، حيث أصبح معظم لؤلؤ تجار الكويت يباع بواسطتها، ويسري ذلك على معظم تجار اللؤلؤ والطواويش في الخليج، كما أنها لم تتخل في الضراء كلما دعت الحاجة، فقد جاء في المصادر البريطانية في تقرير كتبه المقيم السياسي في الخليج للفترة 24 مارس إلى 20 أبريل 1910، حول الوضع المتأزم بعد معركة هدية، وهجرة تجار اللؤلؤ ونقص المواد الاستهلاكية المهمة جاء فيها :
” تم عرض رسالة وصلت للشيخ مبارك من الشيخ عبدالعزيز بن ابراهيم، تاجر اللؤلؤ الكويتي الشهير من بومبي لجميع التجار جاء فيها، أنه ارسل ثلاثة ألاف كيس رز للشيخ مبارك لإعانته في الحملة، وهدايا عبارة عن عربة ذات محرك وسيارة نقل، واضاف بأن حساباته البنكية مفتوحة للشيخ مبارك، ليسحب منها ما شاء أن تقتضيه حاجته في تلك الظروف، وتبعها تقرير لاحق عن الفترة من 21 ابريل حتى 25 مايو1910، يشير فيها عن وصول الربة، وثلاثة آلاف كيس رز التي وعد بها بن إبراهيم على الباخريتن ” مادورا MADURA” و ” بوليمبا BULIMBA ” من بومبي على التوالي.
أما عن وفاة الشيخ عبدالعزيز بن علي الإبراهيم، حيث يذكر عبدالله بن محمد العبدالله القناعي في تدويناته، في 25 ربيع آخر 1328 هـ / 5 مايو 1910 م ” يوم الخميس جانا خبر إلى الكويت تلغراف من مبنى (بومبي)، للشيخ مبارك عن وفاة الشيخ عبدالعزيز بن علي الإبراهيم، وصلوا عليه بعد صلاة الجمعة بالمساجد، من أمر مبارك الصباح الله يرحمه ويعفي عنه”/ ولكن التوثيق الأدق عن تاريخ الوفاة هو ما جاء في كتاب ” تحفة المشتاق في أخبار نجد والحجاز والعراق ” لعبدالله بن محمد البسام، “وفيه سنة 1328 هـ يوم الخميس 18 ربيع آخر (17 أبريل 1910 ) توفي الشيخ عبدالعزيز بن علي بن محمد بن إبراهيم وكانت وفاته في سورت من بلاد الهند”، وقد قيل فيه أبيات بعد وفاته منها :
وقد قلت في هذا ختاماً مؤرخاً *** لعبدالعزيز الفوز مذحم نقله
وبعد وفاته انتقلت المسؤولية إلى الشيخ جاسم بن محمد، يساعده ابن عمه عبدالرحمن بن عبدالعزيز، وكانت أوجها في بداية القرن العشرين والعقد الأول منه، حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى، وهي فترة ذهبية وامتداداً لنجاح ما سبقهم، حتى أطلق عليها الجواهرجي الفرنسي المشهور جاك كارتيه لقب ملوك اللؤلؤ، وكانوا حسب وصفه “أن نصيبهم في تجارة اللؤلؤ بالهند هي حصة الأسد”. سكنت العائلة بعد انتقالها من سورت في بيت متعدد الأدوار، قرب وسط بومبي وحيها التجاري في 3 ناجديفي ستريت NAGDAVI، وبعد وفاة عبدالعزيز 1910 جاء القرار هو الانتقال إلى ضاحية حديثة، هي عبارة عن لسان ممتد في بحر العرب ، حيث قامت شركة كولابا بردم الأراضي باستحداث مناطق سكن راقية COLABA RECLEMATION LAND CORPORATION، وتم شراء قطعة أرض كبيرة مطلة على البحر، تبلغ مساحتها حوالي ثلاثة آلاف متر مربع، أقيم عليها قصر بتصميم عربي إسلامي، أصبح لاحقاً جزء من تراث بومبي المعماري، سجلت تفاصيله في كتاب ( فاسترا تصاميم الهند VISTRA THE ARCHITECTURE OF INDIA ) تحدث عنها المعماري الهندي مينشر مستري، وهو من المصممين المعماريين المشهورين، عن قصة بناء القصر الذي أطلق عليه اسم منزل جاسم معزرة بالصورة، يستعرض فيها سيرة والده المعماري جامشيتجي مستري، وهو مهندس هندي من أصول فارسية(بارسي)، ولد في كوجرات عام 1860م، ودرس الهندسة في جامعة بونا ومنها انتقل إلى بومبي، حينما كانت تمر بنهضة عمرانية في بداية القرن العشرين، فأصاب نجاحا كبيراً في تشييد مبان بارزة في المدينة تعود لمصارف وفنادق ومتحف للفنون، ومستشفى عام وقاعات لجامعة بومبي، حتى اصبح من كبار المعماريين المشهوريين، مما حدا بجاسم الطلب منه تصميم وبناء قصره، ويروي تفاصيل القصة ابنه مينشير فيقول: ” من غريب الصدف أن ثرياً عربياً طلب من والدي تصميم قصر له، فقد تصميماً وخرائط قبل سفره إلى لندن، ولكنه “الثري” حينما اطلع عليها أبدى آسفه الشديد، لأنه كان يتوقع أن يكون التصميم تبعاً للهندسة المعمارية الشرقية بتأثير عربي إسلامي، فقام أبي بتغييرها وإرسالها له إلى لندن للإطلاع عليها، فحاز التصميم الجديد على رضاه، ووافق على بناء القصر فوراً، وأطلق عليه “منزل جاسم”، ولا زال القصر قائما في بومبي في ضاحية كولابا في كف بريد CUFFE PARADE، ويعد من المباني التراثية المميزة، خصص أحد أجنحته ديواناً عاماً، للذين يقصدون الهند للتجارة أو الملاحة أو حتى طلب المساعدة، لذا اشتهر بجملة “انصو كولابا” الذي أطلقها المناضل البحريني سعد الشملان، حينما أقام عند آل إبراهيم أربع سنوات وتعني “اقصدوا كولابا”، وفي أبان نضال الهند لنيل استقلالها والتحرر من الاستعمار البريطاني، دار جزء من أحداثها في أروقة “بيت جاسم”، قبيل الحرب العالمية الثانية وبعدها، حيث استأجر وأقام في جزء منها عضو حركة الاستقلال، وممثل الرابطة الإسلامية، وهو الدكتور خوجه عبدالحميد مؤسس ومالك شركة مختبرات الصناعات الكيماوية CIPLA ( أكبر الشركات الهندية لصناعة الأدوية حالياً)، الذي يتحدث في مذكراته في كتاب ” حياة تذكر A LIFE TO REMEMBER ” الصادر في بومبي عام 1972م، عن أيام إقامته في بيت جاسم، التي تخللتها اجتماعات الحركة ومعظمهم من زعماء حزب الكونغرس، ومنهم سرصيني نايدو ود، والدكتور ذاكر حسين، وسردار باتيل، وجواهر لال نهرو، التي كانت تعقد في ذلك المنزل، كما زاره فيه المهاتما غاندي والقادة المسلمون، مثل مولانا محمد علي وشقيقه مشتاق علي وغيرهم، مما يجعله إرثاً تاريخياً وسياسياً لتلك الفترة، ولكن دوام الحال من المحال فقد بيع ذلك القصر، إلى الراجا أنان ثم انتقلت ملكيته إلى البليونير ميتال أقروال وأخيه برديب أقروال وهو مقسوم بين الاخوين ملاك شركات الحديد والصلب العالمي، وعن تلك الفترة الذهبية كشفت رسالة أرسلها تالجار عبدالله بن محمد الفوزان المقيم بالهند، إلى جريدة الدستور البصرية، التي كان يرأس تحريرها عبدالوهاب الطبطبائي، ظهرت بتاريخ 5 ذي الحجة 1230 هـ / الموافق 15 نوفمبر 1912م، حول التبرعات امالية التي جمعها التجار العرب والهنود، تحت رئاسة السير كريم باي والشيخ جاسم آل إبراهيم، لجمع الإعانة الحربية للدولة العليا.
وكانت جريدة الدستور البصرية قد نشرت سلسلة من المقالات تمجيداً بمواقف آل إبراهيم، منها ما حمله عدد 6 جماد آخر 1230 هـ الموافق 23 مايو 1912م، بعنوان “أخو الكرم الشيخ قاسم آل إبراهيم”، عددت فيه مواقفه الكريمة حيث قالت : هذا المحسن هو الذي مد يده إلى مشروع السكة الحجازية وإعانة الاسطول العثماني، وإعانة الهلال الأحمر العثماني، وكلية دار الدعوة والإرشاد، ومسجد لندرة (لندن) ومدرسة الكويت (المباركية)، وأسس شركة بواخر لنقل الركاب والحجاج والبضائع، وله من الحنسات منها ما يعرفه الناس ومنها ما لا يعرفه، وأخر ما أجراه الله على يده من الحسنات، تأسيسه لجنة عربية لإعانة طرابلس الغرب كما أشرنا إلى ذلك بالأمس، والدستور يرفع رأسه مفتخراً بهمه مواطنيه، لا سيما حضرة الشهم الغيور صاحب السعادة المفضال الشيخ قاسم آل إبراهيم، صاحب الأيادي البيضاء، والأعمال الغراء، الذي يستحيل على الزمان أن يأتي بمثله، فشكراً وألف شكر لحضرته على غيرته الإسلامية، حميه الملية وشهامته العربية”، ولم تكن عائلة الإبراهيم منغلة عما يحدث في العالم من تقدم تقني وعلمي، نتيجة ثقافة أفرادها وانفتاحهم بالاختلاط والسفر إلى أوربا، وظهر ذلك من خلال إقتناء ما توصلت إليه من اختراعات حديثة ومنها السيارات، وينقل صالح العلي الشايع عن عبدالله محمد الفوزان، أن من أوائل السيارات التي وصلت بومبي قد اقتناها آل بن إبراهيم، كما أن أول سيارة رولس رويس لعربي كانت إلى يعقوب بن يوسف الإبراهيم، وكما هو معروف أن هدية السيارة منيرفا إلى الشيخ مبارك الصباح عام 1910م هي منهم، ويذكر محمد رشيد رضا الذي زار الهند بدعوة من الشيخ جاسم بن محمد آل إبراهيم، بأن “سيارة كهربائية وضعت تحت تصرفي حينما كنت بضيافته في بومبي”، ويذكر عن الشيخ جاسم الابراهيم اهتمامه بالعلم، فقد تبرع مع عبدالرحمن بن عبدالعزيز الابراهيم، بالجزء الأكبر في مشروع إنشاء المدرسة المباركية، كما ساهم في التبرع للمدرسة الخليفية في البحرين عام 1919م، وتأسيس دار الإرشاد بالقاهرة عام 1911م، وتعليم أبناء وبنات الجالية العربية في بومبي، باستقدام المطوعة حصة الحنيف (أم عبالملك الصالح من أوائل المعلمين في الكويت)، وتبرعه لمسجد لندن عام 1911م، وتجديده بالكامل لضريح ومسجد الصحابي الجليل الزبير بن العوام 1915م، كما ساهم في تدريب بعض الشباب الكويتيين للعمال التجارية في الهند، ولم يكن التعليم العالي بعيداً عن الأسرة، فتعلم يعقوب بن يوسف الإبراهيم وأخوه “مصطفي” في كلية سان جون في بابكولا ببومبي، ثم أكملاها في جامعة عليكرة، قبل الحرب العالمية الأولى وخلالها، وقد سبق لهما الدراسة على يد مدرسين خصوصيين استضافتهم الأسرة منهم شخصيات علمية، كحافظ وهبة والشاعر اللبناني بديع البستاني، الذي أطلق عليهم لقب ملوك اللؤلؤ، أثناء ضيافتهم له في الفترة من 1912م حتى عام 1914م، وكتب “نبذة مختصرة لتاريخ نجد” أملاه عليه الأمير ضاري بن فهيد الرشيد، الذي كان يتعالج بضيافة عبدالرحمن بن عبدالعزيز الابراهيم، واستضافوا الشاعر طاغور، والمصلح الاجتماعي محمد رشيد رضا وحافظ وهبة، أما ثقافيا فتم طباعة بعض الكتب عن اللؤلؤ، كـ “حساب الأوزان ” باللغة الكوجراتية، للمؤلفين الهنديين جيتا راوجي، وجمنداس ديال رواجي كراني، على نفقة كل من الشيخ جاسم الإبراهيم، وعبدالعزيز الإبراهيم المطبوع في مطبعة القمر في بومبي.
تعليقات الزوار