استمرار العودة في كتابة التاريخ هي ليست هرباً إلى الماضي والاحتماء بذكرياته. بل العكس هي فرصة للتذكير بمنجزاته والاحتفاء بمكاسبه، والبحث على فضاآت جديدة بمسيرة تألقه، وفي هذه الحالة عندما يكتب في موضوع، فيكون من المحتم أن يقع في موبقة التكرار. ولكن إبراز وعرض كم كبير من وثائق تاريخية لتملك أسرة واحدة في وقت واحد هو في حد ذاته تعريف غير مسبوق وتأصيل عراقة للتراث الوطني الذي تعد ملكيات النخيل أحد مكوناته الأساسية التي تشكل مضامين موثقة هادفة ومشجعة تثري وتغذي استمرار انماء التقاليد الكويتية في غرس المبادرة بالحفاظ على هوية تلك التراكمات والعمل على تدوير مكنوناتها خوفاً من التذويب والاحتماء بحكايات الذاكرة السروية ( النوستالجيا ) فقط دون مراجع محكمة تضمن صحة مواقعها و وثائقها. وتكشف عن كينونتها وخصوصياتها خاصة فيما يتعلق بالأمن الغذائي الذي توفره ” شجرة الحياة وخبز الصحراء ” من طعام متكامل. فقد نالت تلك النبتة المباركة مرضعة عيسى المسيح عليه السلام كما جاء ذكرها مرات عديدة محكم كتابه توقيراً ووصفاً ودعاها عن سائر النبات بـ ” الشجرة الطيبة ” .
شجرة لا ينحت ورقها ويؤكل ثمرها في الشتاء والصيف. ” فالنخل هو الذهب في كيسة الرجال يستعان بها على معيشة العيال ” كما قال فيها خالد بن صفوان السعدي التميمي من عمد الأسلاف ، حينما سأله عبدالمك بن مروان : صف لنا بلدك – يقصد البصرة – فأجابه بفصاحته المعهودة : ” يغدوا قانصوه فيه فيجيء هذا بالظبي والظليم ويجيء ذاك بالشبوط والشيم ، ونحن أكثر الناس عاجاً وساجاً وخزاً وديباجاً وبرذوناً هملاجاً وخريدة مغناجاً. بيوتنا الذهب ونهرنا العجب أوله الرطب وأوسطه العنب وأخره القصب فأما الرطب عندنا فمن النخل في مباركه كالزيتون عندكم في منابته. هذا في أفنانه كذاك في أغصانه هذا في زمانه كذاك في أبابه. من الراسخات في الوحل المطعمات في المحل الملقحات بالفحل، يخرجن اسفاطاً بالزبرجد الأخضر ثم تصير ياقوتاً أحمر وأصفر ثم تصير عسلاً في شنة من سحاء ليست قربة ولا إناء حولها المذاب ودونها الحراب لا يقربها ذباب مرفوعة من التراب. ثم تصير ذهباً في كيسة الرجال يستعان بها على معيشة العيال ورثناها من الأباء ونعمرها للأبناء ويدفع لنا عنها رب السماء “.
وهذه أخرى :-
سُمِع الأصمعي مراراً يردد : ” سمعت هارون الرشيد يقول : نظرنا فاذا كل ذهب وفضة على وجه الأرض لا يبلعان ثمن نخيل البصرة “. هذا بعض ما وجدناه في التراث القديم حيث كان ذلك في غابر الزمان وسالف الأيام ولكن الحديث يجرنا إلى الماضي القريب نسبياً، حينما بدأ انتشار تلك الثمر في بلدان تقرأ عنه في الكتب الدينية ولا تعرف عنها الا القليل ولم تذوق لذة طعمها وحلاوته.
فمثلا نجد ” انجهولت ” أحد الرحالة الأوروبيين يذكر عنها عند حلوله البصرة في نوفمبر 1866 : ” أن بدأ بارسال كمية من التمور إلى أوروبا “. لكن ” فوتنيه ” القنصل الفرنسي في البصرة عام 1833 يقول : ” ترسوا كل سنة في نهر البصرة (شط العرب) نحو مائة وخمسين بغلة (سفينة شراعية) منها للعرب و منها من تحمل العلم الانجليزي لتنقل التمر، وهو عماد الثروة الرئيس للبصرة في العقد الأول للقرن التاسع عشر “.
ولكن بعد افتتاح قناة السويس عام 1896 ابتدأ تصدير التمور بانتظام إلى أمريكا حيث تبحر بواخر محملة بتمور البصرة في منتصف شهر سبتمبر كل عام بعد موسم جني المحصول. وكان متوسط ما تنقله حوالي ستين طناً ويمكن تخمين محموع كمية ما يصدر بنحو اثنا عشر طن تبلغ قيمتها مليونيين من الفرنكات أي ما يقابل 80 ألف باون ذهب انكليزي، مما يعني أن قيمة الكارة ( وحدة من أوزان التمور في البصرة تعادل 2794 كيلوغرام ) تبلغ خمسة وعشرين باون ذهب.
من نتائج ذلك ما أدى إلى ارتفاع أسعار بساتين النخيل عدة أضعاف ما زاد الاقبال على الاستثمار فيها. كما ارتفعت واردات الأراضي المزورعة منها بفضل اصلاحات “مدحت باشا ” عندها طرأت زيادة ملموسة في انتاج التمور وتطوير وسائل تعبئتها، فتنامت عمليات التصدير إلى أسواق جديدة في أوروبا وأمريكا بعدما ربط ميناء البصرة بأوروبا عبر قناة السويس والتي كانت ذات أثر بالغ في خفض أسعار الشحن مما أدى إلى زيادة الطلب. كما أصبح 1/6 سكان مدن البصرة يمتهن زراعتها حتى غدت تحوي ما بين 45% إلى 50% من نخل العراق الذي قدرت بين 32-35 مليون نخلة في خمسينيات القرن الماضي.
القس ” جيمس جريهام ” في كتابه ” من بومبي عبر بابل ” الذي زار البصرة عام 1870 يقول فيه : ” بعد افتتاح قناة السويس الذي كان حدثا عالمياً مشهوداً زادت أعداد السفن الأمريكية التي تزور البصرة لتعود محملة بصناديق التمر المشهور الذي كثر عليه الطلب كبيراً لما عرف عند العامة بأن أشجاره تنبت قرب جنة عدن مهبط آدم كما جاء في الانجيل”.
أما بالنسبة إلى مالكي بساتين النخيل من الكويتيين فقد كان استثماراتهم فيها تدفعه عدة أسباب اقتصادية واجتماعية حصيفة أولها تأمين الأمن الغذائي للكويت والشاهد على ذلك أنها لم تمر على أهلها مجاعة في تاريخها عكس ما كان يحدث في أقطار الجوار على ساحلي الخليج والجزيرة. ثم يتبع ذلك الاستثمار تنويع مصادر الدخل نتيجة للفوائض المالية التي تحققت وتصبوا إلى اقتناص فرص مربحة بالاضافة إلى تنشيط تشغيل السفن التجارية في نقل محاصيل استثماراتهم إلى الهند وأفريقيا في طريق الذهاب والعودة بالاضافة إلى ايجاد فرص عمل لمواطنيهم في أملاكهم بمواسم نضوج الثمار، كما ذكر ذلك تقرير الخبير الاقتصادي الفرنسي ” فيتال كونيه ” الذي كان بعنوان آسيا التركية حينما زار الكويت عام 1890 وكتب مفصلاً إلى وزارة المالية في اسطنبول يقول فيه : ” إن معظم السكان في الكويت يعتاشون على المردود وبالعمل في بساتين النخيل خارج البلاد لعدم وجود زراعة يعتمد عليها في الكويت وفي فترات تتوقف فيها أعمال مواسم الغوص على اللؤلؤ “.
واستمرت هذه الحالة حتى منتصف الثلاثينات من القرن الماضي كما تظهره تقارير المعتمدين البريطانيين في الخليج عام 1935
( راجع فقرة 250 صفحة 765 بعنوان العلاقات مع العراق ).
ومما يلفت النظر وجدير بالذكر أن أول عدد لمجلة العربي الكويتية الذي صدر في ديسمبر 1958، وكانت كميته 30 ألف نسخة، قد اختار موضوعاً رئيسياً وغلاف خاصاً عن النخيل والتمر في البصرة التي زارها موفوداً منها كتب مادته وصور مواقعه ويذكر مذهولاً : ” أنها جنة الله على الأرض 23 مليون نخلة في موقع واحد “.
بارك الله فيكم